بحث ميداني حول موضع غدير خمّ
وفي حديث الإمام أحمد : "و ظُلّل لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بثوب على شجرة سَمُرَة من الشمس"(49) .
وفي حديثه الآخر : "و كُسح لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) تحت شجرتين فصلّي الظهر"(50) .
والشجر المشار إليه هنا من نوع "السَّمُر" ، واحده "سَمُرَة" بفتح السين المهملة وضمّ الميم وفتح الراء المهملة ، وهو من شجر الطَلَح ; وهو شجر عظيم ، ولذا عبّر عنه بـ"الدوح" كما في الأحاديث والأشعار التي مرّ شيء منها ، واحده "دوحة" ; وهى الشجرة العظيمة المتشعّبة ذات الفروع الممتدّة .
وهو غير "الغيضة" الآتي ذكرها ; لأنّه متفرّق في الوادي هنا وهناك .
٤ ـ الغَيْضة :
وهي الموضع الذي يكثر فيه الشجر ويلتفّ ، وتُجمع على غياض وأغياض .
وموقعها حول الغدير ، كما ذكر البكري في معجم ما استعجم ، قال : "و هذا الغدير تصبّ فيه عين ، وحوله شجر كثير ملتفّ ، وهى الغيضة"(51) . ومرّ بنا أنّ صاحب المشارق ذكر "أنّ خُمّاً اسم غيضة هناك ، وبها غدير نُسب إليها" .
٥ ـ النبت البَرّى :
ونقل ياقوت الحموي في معجمه البلداني عن عرّام ، أنّه قال : "لا نبت فيه غيرالمرخ والثمام والأراك والعشر"(52) .
٦ ـ المسجد :
وذكروا أنّ فيه مسجداً شُيِّد على المكان الذي وقف فيه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وصلّي وخطب ونصب عليّاً للمسلمين خليفة ووليّاً .
وعَيّنوا موقعه بين الغدير والعين ، قال البكري في معجمه : "و بين الغدير والعين مسجد النبي ( صلّى الله عليه وآله ) "(53) .
وفي معجم البلدان أنّ صاحب المشارق قال : "و خُمّ : موضع تصبّ فيه عين ، بين الغدير والعين ، وبينهما مسجد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) "(54) .
ويبدو أنّ هذا المسجد قد تداعي ولم يبقَ منه في زمن الشهيد الأول ـ المتوفَّى سنة ٧٨٦ هـ ـ إلاّ جدرانه ، كما أشار إلى هذا الشيخ صاحب الجواهر في الجواهر نقلاً عن كتاب "الدروس في فقه الإماميّة(55)" للشهيد الأوّل ، قال : "وفي الدروس : والمسجد باق إلى الآن جدرانُه ، والله العالم"(56) .
أمّا الآن ، فلم نجد له أثراً . . . كما سأشير إلى هذا فيما يعقبه .
٧ ـ ونقل ياقوت في معجم البلدان عن الحازمي أنّ "هذا الوادي موصوف بكثرة الوخامة"(57) .
يقال : وَخِم المكان وخامة : إذا كان غير ملائم للسكني فيه .
٨ ـ ومع وخامته ذكر عرّام ـ فيما نقله ياقوت عنه ـ أنّ به أناساً من خزاعة وكنانة ، ولكنّهم قليلون ، قال : "و به أناس من خزاعة وكنانة غير كثير"(58) .
وصف مشهد النصّ بالولاية :
ويُنسق على ما تقدّم من وصف الموضع تاريخياً ، وصف حادثة الولاية بخطواتها المتسلسلة ، والمترتّب بعضها على بعض ؛ لتكتمل أمام القارئ الكريم الصورة للحادثة التي أعطت هذا الموضع الشريف أهمّيّته كمَعْلَم مهمّ من معالم السيرة النبويّة المقدّسة ، وتتلخّص بالتالي :
١ ـ وصول الركب النبوي بعد منصرفه من حجّة الوداع إلى موضع غدير خُمّ ، ضحي نهار الثامن عشر من شهر ذي الحجّة الحرام من السنة الحادية عشرة للهجرة .
فعن زيد بن أرقم : "لَمّا حجّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) حجّة الوداع ، وعاد قاصداً المدينة ، قام بغدير خُمّ ـ وهو ماء بين مكّة والمدينة ـ وذلك في اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة الحرام"(59) .
٢ ـ ولأنّ هذا الموضع كان مفترق الطُّرق المؤدّية إلى المدينة المنوّرة ، والعراق ، والشام ، ومصر ، تفرّق الناس عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) متّجهين وجهة أوطانهم ، فأمر ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عليّاً ( عليه السلام ) أن يجمعهم بردّ المتقدّم وانتظار المتأخّر .
ففي حديث جابر بن عبد الله الأنصاري : "إنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) نزل بخُمّ ، فتنحّي الناس عنه... فأمر عليّاً فجمعهم"(60) .
وفي حديث سعد : "كنّا مع رسول الله فلمّا بلغ غدير خُمّ وقف للناس ، ثم رُدّ مَن تقدّم ، ولحق مَن تخلّف"(61) .
٣ ـ ونزل الرسول قريباً من خمس سَمُرات دوحات متقاربات ، ونهي أن يُجلَس تحتهنّ .
يقول زيد بن أرقم : "نزل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بين مكّة والمدينة عند سَمُرات خمس دوحات عظام"(62) .
وفي حديث عامر بن ضمرة وحذيفة بن أُسيد ، قالا : "لَمّا صدر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من حجّة الوداع ، ولم يحجّ غيرها ، أقبل حتى إذا كان بالجحفة نهي عن شجرات بالبطحاء ، متقاربات ، لا ينزلوا تحتهنّ"(63) .
٤ ـ ثمَّ أمر ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أن يُقمّ ما تحت تلكم السمرات من شوك ، وأن تُشذّب فروعهنّ المتدلّية ، وأن تُرشّ الأرض تحتهنّ.
ففي حديث زيد بن أرقم : "قام بالدوحات فقمَّ ما تحتهنّ من شوك"(64) .
وفي حديثه الآخر : "أمر رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بالشجرات فقُمَّ ما تحتها ، ورُشّ"(65) .
وفي حديث عامر بن ضمرة وحذيفة بن اُسيد : "فقُمَّ ما تحتهنّ وشُذِّبْنَ عن رؤوس القوم"(66) .
٥ ـ وبعد أن نزلت الجموع منازلها وأخذت أماكنها ، أمر ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مناديه أن ينادى : "الصلاةَ جامعةً" .
يقول حبّة بن جوين العرني البجلي : "لَمّا كان يوم غدير خُمّ دعا النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : (الصلاة جامعة) نصف النهار ..."(67) .
وفي حديث زيد المتقدّم : "فأمر بالدوحات فقُمَّ ما تحتهنّ من شوك ، ثمَّ نادى : الصلاة جامعةً" .
٦ ـ وبعد أن تكاملت الصفوف للصلاة جماعة ، قام( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) إماماً بين شجرتين من تلكم السمرات الخمس .
يقول عامر وحذيفة في حديثهما المتقدّم : "حتى إذا نودي للصلاة ، غدا إليهنّ فصلّي تحتهنّ" .
وفي رواية الإمام أحمد عن البراء بن عازب : قال : "كنّا مع رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) في سفر ، فنزلنا بغدير خُمّ ، فنودي فينا : الصلاة جامعة ، وكُسح لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) تحت شجرتين ، فصلّي الظهر"(68)
٧ ـ وظُلِّلَ لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) عن الشمس أثناء صلاته بثوب ، عُلّق على إحدى الشجرتين .
ففي رواية الإمام أحمد حديث زيد من أرقم : "و ظُلِّل لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بثوب على شجرة سمرة من الشمس"(69) .
٨ ـ وكان ذلك اليوم هاجراً شديد الحرّ .
يقول زيد بن أرقم : "فخرجنا إلى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في يوم شديد الحرّ ، وإنّ منّا مَن يضع بعض ردائه على رأسه ، وبعضه على قدمه من شدّة الرمضاء"(70) .
٩ ـ وبعد أن انصرف ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من صلاته ، أمر أن يُصنع له منبر من أقتاب الإبل(71) .
١٠ ـ ثمَّ صعد ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) المنبر متوسّداً يد علي ( عليه السلام ) .
يقول جابر في حديثه المتقدّم : "فأمر عليّاً فجمعهم ، فلمّا اجتمعوا ، قام فيهم وهو متوسّد يد علىّ بن أبى طالب" .
١١ ـ وخطب ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) خطبته ...
١٢ ـ "ثمَّ طفق القوم يهنّئون أمير المؤمنين ( صلوات الله عليه ) ، وممّن هنّأه في مقدّم الصحابة : الشيخان أبو بكر وعمر ، كلٌّ يقول : بخٍ بخٍ لك يابن أبى طالب ! أصبحتَ وأمسيتَ مولاي ومولي كلّ مؤمن ومؤمنة"(72) .
١٣ ـ وقال ابن عبّاس : "وَجَبَتْ ـ والله ـ في أعناق القوم"(73) ; يعنى بذلك البيعة بالولاية والإمرة والخلافة .
١٤ ـ ثمَّ استأذن الرسولَ شاعرُه حسّانُ بن ثابت في أن يقول شعراً في المناسبة ...(74)
الأعمال المندوب إليها شرعاً في هذا الموقع :
الأعمال المندوب إليها شرعاً في هذا الموضع ، هي :
١ ـ استحباب الصلاة في مسجده المعروف ـ تاريخياً ـ بمسجد رسول الله ، ومسجد النبي ، ومسجد غدير خُمّ .
٢ ـ الإكثار فيه من الدعاء والابتهال إلى الله تعالي .
قال الشيخ صاحب الجواهر في كتابه جواهر الكلام : "و كذلك يستحبّ للراجع على طريق المدينة الصلاة في مسجد غدير خُمّ ، والإكثار فيه من الدعاء ، وهو موضع النصّ من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) "(75) .
ومن الحديث الذي يدلّ على ذلك ...(76)
وقال الشيخ يوسف البحراني في الحدائق الناضرة(77) : يستحبّ لقاصدي المدينة المشرّفة ، المرور بمسجد الغدير ودخوله والصلاة فيه ، والإكثار من الدعاء .
وهو الموضع الذي نصّ فيه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) على إمامة أمير المؤمنين وخلافته بعده ، ووقع التكليف بها ، وإنْ كانت النصوص قد تكاثرت بها عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قبل ذلك اليوم ، إلاّ أنّ التكليف الشرعي والإيجاب الحتمي إنّما وقع في ذلك اليوم ، وكانت تلك النصوص المتقدّمة من قبيل التوطئة ؛ لتُوطَّن النفوس عليها ، وقبولها بعد التكليف بها .
فروي ثقة الإسلام في الكافي (78) ، والصدوق في الفقيه(79) ، عن أبان ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) : قال : "يستحبّ الصلاة في مسجد الغدير ; لأنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أقام فيه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وهو موضع أظهر الله عزّ وجلّ فيه الحقّ" .
وروي المشايخ الثلاثة(80) ـ نوّر الله تعالي مضاجعهم ـ في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجّاج : قال : "سألت أبا إبراهيم ( عليه السلام ) عن الصلاة في مسجد غدير خُمّ بالنهار وأنا مسافر ، فقال : "صَلِّ فيه ; فإنّ فيه فضلاً ، وقد كان أبي يأمر بذلك" .
وقد ذكر استحباب الصلاة في مسجد الغدير غير واحد من فقهائنا الإماميّة ، مضافاً إلى مَن ذكرتهم ، منهم :
ـ الشيخ الطوسي في النهاية ، قال : "و إذا انتهي [يعنى الحاجّ] إلى مسجد الغدير ، فليدخله ، وليصلِّ فيه ركعتين"(81) .
ـ القاضي ابن البرّاج في المهذّب ، قال : "فمَن توجّه إلى زيارته ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) من مكّة بعد حجّه ، فينبغي له إذا أتي مسجد الغدير ... فليدخله ، ويصلّى من ميسرته ما تيسّر له ، ثمَّ يمضى إلى المدينة"(82) .
ـ الشيخ ابن إدريس في السرائر ، قال : "و إذا انتهي [الحاجّ] إلى مسجد الغدير ، دخله وصلّي فيه ركعتين"(83) .
ـ الشيخ ابن حمزة في الوسيلة ، قال : "و صلّي [يعنى الحاجّ] أيضاً في مسجد الغدير ركعتين إذا بلغه"(84) .
ـ الشيخ يحيي بن سعيد في الجامع ، قال : "فإذا أتي [الحاجّ] مسجد الغدير ، دخله وصلّي ركعتين"(85) .
ـ السيّد الحكيم في منهاج الناسكين ، قال : "و كذا يستحبّ الصلاة في مسجد غدير خُمّ ، والإكثار من الابتهال والدعاء فيه . وهو الموضع الذي نصّ فيه النبي ( صلّى الله عليه وآله ) بالولاية لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وعقد البيعة له ، صلّي الله عليهما وعلى آلهما الطاهرين"(86) .
وصف الموقع الراهن :
وصَفَه المقدَّم عاتق بن غيث البلادي ـ المؤرّخ الحجازي المعاصر ـ في كتابه "معجم معالم الحجاز" ، قال : "و يعرف غدير خُمّ اليوم باسم "الغُرَبَة" ; وهو غدير عليه نخل قليل لأُناس من البلاديّة ، من حرب ، وهو في ديارهم يقع شرق الجحفة على (٨) أكيال ، وواديهما واحد ، وهو وادي الخرّار(87) .
وكانت عين الجحفة تنبع من قرب الغدير ، ولا زالت فقرها ماثلة للعيان .
وتركبُ الغديرَ من الغرب والشمال الغربي آثار بلدة كان لها سور حجري لا زال ظاهراً ، وأنقاض الآثار تدلّ على أنّ بعضها كان قصوراً أو قلاعاً ، وربّما كان هذا حيّاً من أحياء مدينة الجحفة ، فالآثار هنا تتشابه"(88) .
وقد استطلعتُ ـ ميدانياً ـ الموضع من خلال رحلتين :
ـ كانت أُولاهما : يوم الثلاثاء ٧ / ٥ / ١٤٠٢ هــ = ٢ / ٣ / ١٩٨٢ م .
ـ والثانية : يوم الأربعاء ١٨ / ٦ / ١٤٠٩ هــ = ٢٥ / ١ / ١٩٨٩ م ...
الطُّرق المودّية إلى الموقع :
... إنّ هناك طريقين تُؤدّيان إلى موقع غدير خُمّ ; إحداهما من الجحفة ، والأُخرى من رابغ .
1 ـ طريق الجحفة :
تبدأ من مفرق الجحفة عند مطار رابغ ، سالكاً تسعة كيلوات مزفّتة إلى أوّل قرية الجحفة القديمة ، حيث شيّدت الحكومة السعوديّة ـ بعد أن هدمت المسجد السابق الذي رأيناه في الرحلة الأُولى ـ مسجداً كبيراً في موضعه ، وحمّامات للاغتسال ، ومرافق صحّية ، ومواقف سيّارت .
ثمَّ تنعطف الطريق شمالاً ، وسط حجارة ورمال كالسدود ، بمقدار خمسة كيلوات إلى قصر علياء ، حيث نهاية قرية الميقات . ثمَّ تنعطف الطريق إلى جهة اليمين ، قاطعاً بمقدار كيلوين أكواماً من الحجارة وتلولاً من الرمال ، وحرّة قصيرة المسافة . ثمَّ تهبط من الحرّة يمنة الطريق حيث وادي الغدير .
٢ ـ طريق رابغ :
وتبدأ من مفرق طريق مكّة ـ المدينة العامّ ، الداخل إلى مدينة رابغ عند إشارة المرور ، يمنة الطريق للقادم من مكّة ، مارّةً ببيوتات من الصفيح ، وأُخرى من الطين يسكنها بعض بدو المنطقة ؛ ثمَّ يصعد على طريق قديمة مزفَّتة تنعطف به إلى اليسار ، وهى الطريق العامّ القديمة التي تبدأ بقاياها من وراء مطار رابغ ؛ وبعد مسافة عشر كيلوات ، وعلي اليمين ، يتفرّع منه الفرع المؤدّى إلى الغدير ، ومسافته من رابغ إلى الغدير ٢٦ كيلواً تقريباً .
وفي ضوء ما تقدّم :
يقع غدير خُمّ من ميقات الجحفة مطلع الشمس بحوالي ٨ كيلوات ، وجنوب شرقي رابغ بما يقرب من ٢٦ كم .